الاثنين، 24 يناير 2011

القدس في العصر المملوكي

بقلم محسن هاشم
القدس ليست مدينة عادية ولكنها رمز دار من حوله الصراع على مدى التاريخ خاصة بين القوى العربية وقوى الإرهاب والعدوان الآتية من خارج المنطقة العربية والمسماة "إسرائيل"، وفي محاولة من المؤلف لتقديم صورة شاملة عن واقع القدس إبان قرنين ونصف قرن من الزمان تحت العصر المملوكي قام المؤلف في كتابه هذا ببيان الأوضاع السياسية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية.. الخ في مدينة بيت المقدس، وذلك كله عبر خمسة فصول رئيسة، وليؤكد لنا من خلال ذلك المؤلف كيف أن القدس كانت مركزًا للثقافة والسياسة والاقتصاد في تلك الحقبة، وكيف أنها كانت أساسًا لبناء الحضارة ومدينة للسلام وليست ستارًا للعدوان والإرهاب مثلما فعل الصليبيون بالأمس والصهاينة اليوم.
الفصل الأول: الحياة السياسية في بيت المقدس:
في البداية يشير المؤلف إلى مدينة القدس في فترة ما قبل العصر المملوكي، ثم يلقي الضوء على أهمية المدينة بالنسبة لسلاطين المماليك، ثم بعد ذلك يشير إلى مظاهر الحياة السياسية لبيت المقدس في العهد المملوكي، وذلك في ثلاثة محاور رئيسة.
قدس ما قبل العصر المملوكي:
أما في المحور الأول فيقرر المؤلف في البداية أن مدينة القدس تتمتع بمكانة خاصة في جميع أنحاء العالم قديمة وحديثة نظرًا لأهميتها الدينية، ومن هنا نجد أنه مع انتشار المسيحية والاعتراف بها في أوائل القرن الرابع الميلادي أضحى زيارة بيت المقدس من أهم شعائرهم الدينية، وذلك من أجل العظة والعبرة والعبادة، ومع ازدياد نفوذ الكنيسة الغربية حرصت على فرض سيطرتها على تلك الأماكن المقدسة وعلى ضم الكنيسة الشرقية لنفوذها.
ومن هنا - كما يشير المؤلف - اتخذت من الحروب الصليبية وسيلة لتحقيق أطماعها وهو ما تحقق لها باستيلاء الصليبيين على بيت المقدس عام 492 هـ/ 1099م والتي ظلت تحت حكم الصليبيين حتى عادت مدينة بيت المقدس إلى الحظيرة الإسلامية بعد فتح صلاح الدين الأيوبي لها عام 583هـ/ 1187م عقب معركة حطين، وقد أدت اتفاقية الرملة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد عام 1191م إلى تحقيق نوع من الاستقرار داخل المدينة إلا أن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً في عهد خلفاء صلاح الدين الأيوبي وخاصة في عهد أبناء الملك العادل الأيوبي مما ترتب على ذلك حدوث نتائج خطيرة على المدينة، وأثر على استقرارها حيث حدث نوع من الصراع بين أبناء الملك العادل الأيوبي فحدثت حروب ومنازعات داخلية فيما بينهم، ومكمن خطورة تلك المنازعات والحروف هو استعانتهم إلى جانب المماليك أو الرقيق الأبيض استعانوا بالصليبيين، وكان من نتاج ذلك هو استرداد الصليبيين لبيت المقدس في عهد الملك الكامل عام 626هـ/ 1228م وظلت المدينة بعد ذلك كالكرة تتلاقفها أيدي المسلمين والصليبيين حتى استردها المسلمون نهائيًا عام 642هـ/ 1244م عندما استردها السلطان الصالح أيوب بمساعدة الخوارزمية وهو السبب الذي أدى إلى قيام الحملة الصليبية (السابعة) بقيادة لويس التاسع على مصر، وكان بحق انتصار فرسان المماليك في مصر على الصليبيين بين المنصورة وفارسكور سنة 646هـ/ 1250م وما تلاه من انتصار المماليك على المغول في عين جالوت 1260م كان بحق هو طوق النجاة والإنقاذ لبيت المقدس من براثن هؤلاء الغزاة مما جعل مدينة بيت المقدس مع قيام دولة سلاطين المماليك في مصر في منتصف القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي تدخل مرحلة جديدة تمامًا في تاريخها.
أهمية مدينة بيت المقدس في السياسة المملوكية:
أما في المحور الثاني فيشير المؤلف إلى أن أهمية بيت المقدس بالنسبة للمماليك ترجع في المقام الأول إلى طبيعتها الدينية باعتبارها أحد الأماكن المقدسة التي تتعلق بها قلوب المسلمين في العالم، إضافة إلى أن الاهتمام بها كان إحدى الدعائم القوية لبناء دولة سلاطين المماليك خاصة وأن قوتهم العسكرية والتي أثبتت فاعليتها في صد هجمات العدوان الخارجي خاصة في المنصورة وفي فارسكور وفي عين جالوت لم تشفع لهم لكي يجلسوا على العرش باعتبارهم عبيدًا، ومن المعروف أنه وفقًا للنظرية الإسلامية السياسية في الحكم أن من بين شروط الحاكم هو أن يكون حرًا.
ومن هنا كان لابد على سلاطين المماليك أن يبحثوا عن سند شرعي يدعم به حكمهم فقام الظاهر بيبرس بإحياء الخلافة العباسية من جديد بتولية أبو العباس أحمد سنة 659هـ/ 1261م الحكم إضافة إلى ذلك ترجموا سياستهم الدينية إلى واقع ملموس فاتخذوا العديد من التسميات للتأكيد على شرعيتهم مثل نصير أمير المؤمنين، وسلطان الإسلام والمسلمين، ومحيي العدل في العالمين، وحامي الحرمين الشريفين والقبلتين… الخ.
إضافة إلى أن سياستهم الدينية هذه انعكست على بيت المقدس والاهتمام بها سواء في عهد سلاطين المماليك البحرية (دولة المماليك الأولى) أو الجراكسة (دولة المماليك الثانية).
الوضع الإداري لبيت المقدس:
أما في المحور الثالث فيلقي المؤلف الضوء على النظام الإداري لبيت المقدس مشيرًا في البداية إلى أنه بعد قيام سلاطين المماليك ببسط نفوذهم على بلاد الشام عقب موقعة عين جالوت قسموا بلاد الشام إداريًا إلى ستة أقسام كبرى (نيابات) وكان على رأس كل قسم أو نيابة أمير من أمراء المماليك وأكبرهم مقامًا هو أمير دمشق حتى أطلق نيابته أو قسمه (نيابة أو مملكة الشام) وكانت القدس ولاية تتبع نيابة دمشق، وفي هذا السياق يشير المؤلف أن ذلك كان هو بداية العهد الإداري مع المماليك، وأن عملية تحويل القدس من نيابة إلى ولاية مستقلة بذاتها قد حدث في زمن الأشرف شعبان في سنة 777هـ/ 1375م وذلك وفقًا لرواية القلقشندي وهو المؤرخ العليم بالشئون الإدارية في كتابه (صبح الأعشى) إضافة إلى ذلك يؤكد المؤلف على رغبة سلاطين المماليك في اهتمامهم ببيت المقدس تدعيمًا لنفوذهم في تلك المدينة، ولربطها إداريًا بسلطتهم مباشرة بالقاهرة أي تم تحويل بيت المقدس من ولاية صغيرة تابعة لنائب دمشق إلى نيابة مستقلة تتبع السلطة المركزية بالقاهرة وذلك خوفًا على القدس من الخطر الصليبي ومن المسيحيين الغربيين، وأن يحدث لها ما حدث للإسكندرية عام 767هـ/ 1365م على يد بطرس الأول.
إضافة إلى أن تحويل السلطان الأشرف شعبان بيت المقدس إلى نيابة كان نتيجة للاستقرار الذي تمتعت به.
إضافة إلى أن وجود أعداد من المماليك بمدينة القدس إما لبعد مدينة القدس عن العاصمة وتقلباتها السياسية أو لتوفير حماية عسكرية لها إذا ما تعرضت لخطر خارجي كان من أهم الدوافع للاهتمام ببيت المقدس.
إضافة إلى حرص السلطان على التمسك بحقه في شغل الوظائف الدينية بالقدس، إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى حرص سلاطين المماليك على انتقاء قضاة وحكام بيت المقدس ومراقبتهم وحرصهم دائمًا على تغييرهم في حالة عجزهم أو تعسفهم ضد الرعية من سكان بيت المقدس كما حدث في عهد الملك الظاهر جقمق بالنسبة لخشقدم - نائب السلطنة بالقدس الشريف - وكما حدث في عهد السلطان الأشرف قايتباي مع نائبه في القدس خضر بك.
إلى جانب ذلك كان هناك حرص دائم من جانب سلاطين المماليك للاستماع لشكاوى أهالي القدس عند زيارتهم لها.
الفصل الثاني: سكان مدينة بيت المقدس في عصر سلاطين المماليك:
ويتناول المؤلف هذا الفصل في محورين رئيسين:
التطور السكاني في المدينة:
يرى المؤلف في المحور الأول استنادًا إلى آراء بعض المؤرخين إلى أن عدد سكان مدينة بيت المقدس قد بلغ مائتي ألف نسمة أيام الصليبيين في القرن الحادي عشر حيث كان نصفهم من السكان العرب الأصليين والباقي من الذين وفدوا مع الفتح الصليبي من أوروبا، ولعل ذلك يرجع إلى أنه بعد مجيء الصليبيين واستيلائهم على المدينة عام 1099 قاموا بعمليتين تفريغ للمدينة من المسلمين واليهود وإن سمح للمسلمين واليهود سواء بالبقاء أو بالعودة لبيت المقدس فكان ذلك من أجل تقديم خدمات تجارية لهم.
إلى جانب ذلك يشير المؤلف إلى زيادة أعداد المسلمين واليهود بعد استرداد صلاح الدين للمدينة المقدسة وطرد الصليبيين منها والذين كانوا عند بداية الفتح الصلاحي لها حوالي 120000 نسمة منهم مائة ألف من الصليبيين منهم أيضًا ستون ألفًا من المقاتلين وعشرون ألفًا من السكان، ويرجع المؤلف عوامل النمو السكاني في المدينة بعد استرداد المسلمين لها إلى دخول المدينة تحت حكم سلاطين المماليك وهم الذين اهتموا برعاية المقدسات فيها وبرعاية شعائر الإسلام فيها، إضافة إلى كثرة الهجرة من العراق وبعض بلاد الشام نتيجة للمذابح التي ارتكبها المغول وخاصة في العراق، إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى أنه نظرًا لاهتمام سلاطين المماليك وخاصة البحرية أو دولة المماليك الأولى بالأحوال الصحية العامة كان من بين عوامل جذب السكان إلى القدس إضافة إلى تمتع بيت المقدس بالاستقرار الاقتصادي والمالي.
على العكس من ذلك تمامًا يشير المؤلف إلى أنه منذ منتصف القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي أي في عصر سلاطين المماليك الجراكسة حدث تناقص شديد في عدد سكان بيت المقدس، ويرجع المؤلف ذلك إلى انتشار الأوبئة فيها وأكثرها خطورة هو الوباء الذي أطلق عليه الغربيون (الموت الأسود) أو (الفناء الكبير) كما أطلق عليه المؤرخون المسلمون إلى جانب الطاعون.
بالإضافة إلى كثرة الزلازل في المدينة وسوء الأحوال الاقتصادية إضافة إلى ذلك غزو تيمور لنك بلاد الشام عام 802هـ/ 1402م وخاصة دمشق والتي أدخلت الرعب والخوف في نفوس سكان بيت المقدس، وكان دافعًا لهجرتهم للمدينة واللجوء لمصر، ولعل ذلك يرجع في المقام الأول إلى التدهور السياسي الذي عم سلطنة المماليك الجراكسة بوجه عام من اضطراب وفوضى وكثرة فتن العربان ونهبهم لسكان المدينة.
العلاقة بين المسلمين وأهل الذمة:
أما في المحور الثاني فيقرر المؤلف أنه نظرًا لنظرة سلاطين المماليك لمدينة بيت المقدس الدينية جعلهم يقومون برعاية الأماكن المقدسة المهمة سواء بالنسبة للمسلمين وغير المسلمين من مسيحيين ويهود والعناية بها، إضافة إلى معاملة سكانها من أهل الذمة بالحسنى وبالتسامح وبالعدل، إضافة إلى حرص سلاطين المماليك أشد الحرص على تحقيق أكبر قسط من الأمن والحرية والاستقرار للطوائف الدينية القاطنة في القدس، ولعل هذا ما أكده الرحالة الأوربيون وكتابهم، وكذلك اليهود الذين هاجروا إلى بيت المقدس من أسبانيا سنة 1333م.
إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى أن أهل الذمة قد عاشوا وسط المجتمع الإسلامي في شوارع خاصة بهم داخل مدينة بيت المقدس كما كان لهم كنائسهم ومعابدهم الخاصة بهم يمارسون فيها عبادتهم بحرية تامة، ولعل أبلغ دليل على ذلك هو السماح لطائفة الرهبان الفرنسيسكان بعمارة سقف كنيسة المهد ببيت لحم، إضافة إلى أنه في عهد السلطان قايتباي أيضًا قد سمح لتلك الطائفة أيضًا بإصلاح قبة كنيسة القبر المقدس بل إن السلطان الغوري سمح لهم ببناء دير لهم بالرملة، ولعل هذا نابع من القاعدة الشرعية التي جرى إتباعها في هذا الصدد بمقتضى عهد عمر بن الخطاب لبطريك بيت المقدس.
إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى أن وضع المسلمين كوضع أهل الذمة من حيث فرض الرسوم والمكوس التي تتطلبها ظروف الدولة الحربية، وأن المؤلف يشير إلى أنه في أحيان أخرى كانت تحدث بعض الخلافات الدينية بين المسلمين وأهل الذمة، وغالبًا ما كانت تحل عن طريق قضاة بيت المقدس أو السلطان نفسه، إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى أنه عندما كانت تتعرض البلاد لخطر على سلامتها أو أمن ممتلكاتها أو كانت هناك مشاريع صليبية متعددة لاستعادة الأرض المقدسة فلقد كان سلاطين المماليك يستخدمون عنصر التهديد بغلق كنيسة القيامة والتنكيل بالمسيحيين وخاصة طوائف الرهبان الفرنسيسكان على أساس أنهم يمثلون الغرب الأوروبي وذلك للضغط على البابوية وملوك الغرب الأوروبي لعدم التعرض لدولتهم أو تجارتهم، ولكنهم وفقًا لما يشير إليه المؤلف لا يستخدمون أيًا من وسائل الضغط هذه إلا مع قسوة الأحداث التي تتعرض لها البلاد مثل المطالبة باستعادة أسرى المسلمين والأموال والمتاجر التي كانت تقع غنيمة في أيدي القراصنة الغربيين، أو كانت قد أعجزتهم السبل لصد هجماتهم وغاراتهم أو لخروج الرهبان عن طبيعة رسالتهم الدينية وتزايد نشاطهم السياسي أو لمقاومة التيار التبشيري الذي اتخذه الرهبان سبيلاً لاستعادة النفوذ الفرنجي في الأرض المقدسة، وذلك خوفًا من نشر التبشيريين المسلمين وحدوث فتنة بين المسلمين والمسيحيين بصفة خاصة.
الفصل الثالث: الحياة العلمية في مدينة القدس:
أما في الفصل الثالث يلقي المؤلف الضوء على أسباب انتعاش الحياة الثقافية، وإقامة العلماء ببيت المقدس إلى بيان مظاهر الاهتمام بالحياة العلمية في مدينة القدس، مع بيان موقف علماء بيت المقدس من الحكام ومن القضايا المعاصرة، وذلك في ثلاثة محاور رئيسة.
أسباب انتعاش الحياة الثقافية وإقامة العلماء ببيت المقدس:
أما في المحور الأول فيقرر المؤلف أنه مع اهتمام سلاطين المماليك بالواجهة الدينية لدولتهم كان هو الدافع الرئيس لهم على إحياء الخلافة العباسية بالقاهرة سنة 1659هـ/ 1261م على يد السلطان الظاهر بيبرس بعد سقوط بغداد في أيدي المغول سنة 656هـ/ 1258م وفي هذا السياق قامت الخلافة العباسية بالقاهرة باستقطاب علماء المسلمين من شتى بقاع الأرض للاستفادة من حياة الاستقرار والأمن في ظل حكم سلاطين المماليك، وتشجيعهم أدبيًا وماديًا، وفي هذا الإطار يشير المؤلف إلى تنقل العلماء بين الأماكن المقدسة المشمولة برعاية سلاطين المماليك وحمايتهم ومنها مكة والمدينة، ولكن نظرًا لقسوة الحياة فيها فكان العلماء يفضلون الإقامة ببيت المقدس حيث الحياة الطبيعية ووقوعها داخل دائرة النشاط الحضاري للدولة الإسلامية.
إضافة إلى أن لبيت المقدس جاذبية خاصة لهم بصفتها أولى القبلتين وثالث الحرمين، إلى جانب ارتباطها بقصة الإسراء والمعراج.
إلى جانب ذلك يشير المؤلف إلى وفود كثير من علماء الدين والأدب والذين رحلوا من المغرب إلى المشرق وإلى بيت المقدس خاصة كانوا يسمعون التفسير والحديث والفقه في المسجد الأقصى فضلاً عن عدد كبير من المدارس التي وجدت بالمدينة، إضافة إلى تولي الكثيرين منهم بعض الوظائف الرفيعة مثل القضاء وغيره. إلى جانب العلماء المغاربة يوجد علماء من كل أنحاء الشرق ومن مختلف الجنسيات وفدوا إلى بيت المقدس سواء من الهند أو من العراق خاصة في ظل خضوعها لحكم المغول الوثنيين.
ولعل من أهم الدلائل التي أيدت أن بيت المقدس أصبح إحدى المراكز العلمية في عصر السلاطين أنها كانت قبلة العلماء وطلاب العلم والمعرفة، ولعل أشهرهم مؤرخ الشام شمس الدين الذهبي وشهاب الدين ابن حجي فقيه الشام وعلاء الدين علي بن أحمد بن محمد السيرامر وشمس الدين القلقشندي وبدر الدين بن مكي وغيرهم والذين كان لهم دور فعال في إنشاء كثير من الأسرات العلمية التي أثرت الحياة العلمية في القدس ومن بينها بنو كيكلدي وبنو القلقشندي وبنو الديري وبنو قدامة وبنو غانم… الخ.
إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى أن تلك الأسرات قد أنجبت الكثير من السيدات الشهيرات في ذلك العصر، واللائي كان لهن مشاركة علمية فعالة ومن بينهن أسماء ابنة الحافظ صلاح الدين خليل بن العلائي وآمنة ابنة العلامة تقي الدين إسماعيل القرقشندي … الخ.
إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى أن المنافسة العلمية بين الأسرات ومحاولتهم تقلد الوظائف الهامة مثل الخطابة والقضاء وغيرها كانت من أهم العوامل التي جعلت مدينة القدس إحدى المراكز الهامة العلمية.
مظاهر ازدهار الحياة العلمية في بيت المقدس:
أما في المحور الثاني فيشير المؤلف إلى أن من ثمرة انتعاش الحياة العلمية في بيت المقدس هو زيادة عدد المؤلفات والرسائل والمصنفات وبخاصة في مجال علوم الحديث والتفسير والفقه، إضافة إلى أن مدينة القدس شهدت نشاطًا ملحوظًا في مجال التصوف (ابن غانم المقدس) كذلك برع كثير من أبناء القدس في علم القراءات وأشهره على الإطلاق شمس الدين الجزري وابن جبارة المقدسي… الخ.
إضافة إلى أن لعلماء بيت المقدس نشاطًا كبيرًا في مجال الأدب والنحو ومنهم نجم الدين الطوخي الصرصري (شرح مقامات الحريري) جبارة المقدس (شرح الشاطبية ولألفية ابن معطي) ومنهم ابن أبي اللطف.. الخ. إضافة إلى أن علماء بيت المقدس كان لهم دور بارز في علم التاريخ أمثال خليل ابن شاهين وأبو شامة المقدسي وابن فضل الله العمري وابن سرور المقدسي وابن حجر وابن شاهين ومجير الدين الحنبلي، وكذلك كان هناك العديد من العلماء في الرياضيات (الخليلي) والطب (يعقوب ابن صقلان الملكي المقدسي وإسماعيل بن إبراهيم بن سليمان المقدسي).
إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى أن المؤسسات التعليمية من زوايا ومدارس ومساجد لدى المسلمين والكنائس والأديرة بالنسبة لأهل الذمة لعبت دورًا هامًا كمؤسسات تعليمية، وأن الفقهاء من المسلمين ورجال الدين من أبناء الذمة كانوا هم حفظة العلم، كذلك يشير المؤلف إلى دور الأوقاف المحبوسة على تلك المؤسسات وكذلك الهبات والأحوال التي كانت ترد إليها في ازدهار الحياة الثقافية والعلمية فيها.
إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى دور مكتبات بيت المقدس في الحياة العلمية، وفي إثراء قواعد النهضة الثقافية فيها. وفي هذا السياق يشير المؤلف إلى أن السلطان صلاح الدين الأيوبي عندما فتح بيت المقدس حمل معه إلى قبة الصخرة وإلى محراب المسجد الأقصى مصاحف وختمات.. الخ، والتي أحضرها معه من مكتبة دمشق. إضافة إلى حرص سلاطين المماليك على تزويد مكتبات القدس بالكتب النفيسة وبخاصة المسجد الأقصى، وإن كان شاركهم في ذلك بعض ملوك المغرب العربي … الخ.
إضافة إلى وجود كثير من المكتبات الخاصة التي حرص كثير من العلماء على تكوينها، ومن أمثلتها دار الكتب الفخرية (للقاضي فخر الدين أبو عبد الله ابن فضل الله) إضافة إلى وجود العديد من المكتبات في العديد من الأديرة والكنائس، والتي كان لها دور هام في الحياة التعليمية (مثل مكتبة كنيسة القديسة مريم) ومكتبة القبر المقدسي ومكتبة الرهبان الفرنسيسكان.
إلى جانب ذلك يشير المؤلف إلى أن من بين مظاهر رواج الحياة العلمية في بيت المقدس هو كثرة المجالس العلمية التي تعقد سواء في المسجد الأقصى أو في المساجد الأخرى أو في المنازل أو بين أبناء أهل الذمة داخل الأديرة أو الكنائس.
موقف علماء بيت المقدس من الحكام ومن بعض القضايا المعاصرة:
أما في المحور الثالث فيشير المؤلف إلى دور علماء بيت المقدس في الحياة العامة في عصر سلاطين المماليك نظرًا لاتصالهم المباشر بكافة الطبقات الاجتماعية من تجار وأصحاب حرف وبالطبقة الحاكمة، إلى جانب ذلك حرص الحكام على مصاهرة العلماء لكي يكتسبوا مكانة اجتماعية مع توليهم للمناصب الهامة، وإشرافهم على الأوقاف، إضافة إلى أنهم أصبحوا المتحدثين الرسميين في الشئون القانونية والاجتماعية والدينية لكثير من أبناء المدينة، إضافة إلى ذلك الدور الديني والقضائي والتجاري والمالي كان لهم دور في مجال الحياة العامة في بيت المقدس حيث قاموا بدور الوسطاء بين الحكام والمحكومين من أبناء بيت المقدس سواء في مجال جمع الضرائب التي تفرضها السلطات للمساهمة في الأعباء الحربية للدولة أو نتيجة لتصديهم لتعصف الحكام كما فعل قاضي القضاة شرف الدين أبو الروح عيسى ابن شمس الدين محمد المغربي بمبارك شاه.
أما عن مواقف علماء بيت المقدس من القضايا المعاصرة فيشير المؤلف إلى موقفهم من بعض المسائل الدينية وبخاصة من تعاليم ابن تيمية، والذي أخذ في مذهبه الحنبلي، وأفتى في العديد من المسائل، والذي لم يأخذ فيها بالتقاليد أو بالإجماع، ومنها إنكارهم لقوله: إن الطلاق بالثلاثة لا يقع بلفظ واحد كما أنكروا على ابن جوزية بعدم جواز الشفاعة والتوسل بالأنبياء، إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى دور علماء بيت المقدس السياسي وخاصة فيما قام من ثورات ضد سلاطين المماليك في بلاد الشام مثال ذلك ما حدث عندما ثار الأمير منطاسن ضد السلطنة في مصر سنة 793هـ/ 1390م ودعا القضاة وكبار رجال الدين لتأييده.
الفصل الرابع: الحياة الاقتصادية في بيت المقدس:
أما في هذا الفصل فيتناول المؤلف الحياة الاقتصادية في مدينة القدس من عدة وجوه، وذلك في خمسة محاور رئيسة منها:
المحور الأول: أثر الظروف الطبيعية في أحوال بيت المقدس الاقتصادية:
أما في المحور الأول فيقرر المؤلف أنه نظرًا لكون بيت المقدس يقع بين خط عرض 32ْ شمالاً وعلى خط طول 35ْ شرقًا كما أن بعدها حوالي 55 كيلو مترًا شرقًا من ساحل البحر المتوسط وحوالي 30 كيلو مترًا غربًا من نهر الأردن جعلها بعيدة عن طرق التجارة القديمة المعروفة، إضافة إلى أن بعدها عن البحر الأبيض والأحمر لم يجعلها إحدى المواني الهامة التي كان لها دور هام في التجارة العالمية في العصور الوسطى، إضافة إلى إقامتها على أربعة جبال (جبال سوريا وأبو عمار والمنظار وأكرا) إلى جانب إحاطتها بالعديد من الجبال مثل جبل النبي صموئيل وجبل صهيون، وارتفاعها عن سطح البحر بحوالي 892 مترًا وطبيعتها الصخرية، كل ذلك من العوامل الطبيعية كان له تأثير على الحياة الاقتصادية فيها مما جعلها قليلة الإنتاج الزراعي بسبب قلة مياهها وطبيعتها الجبلية وارتفاعها عن سطح البحر.. الخ.
المحور الثاني: الزراعة والصناعة والتجارة في بيت المقدس:
إلا أنه كما يشير المؤلف في المحور الثاني رغم صعوبة الأحوال الطبيعية في بيت المقدس إلا أنها لم تخلُ فيها المناطق الزراعية والمتمثلة في القرى والتلال والوديان المحيطة بها حيث توافرت في تلك المناطق موارد للمياه، إضافة إلى وجود كثير من المناطق المسطحة داخل المدينة والتي ربما استغلت في الزراعة، ومن بين هذه القرى المحيطة من جهة الشرق أريحا، إضافة إلى بقعة من جهة الغرب والأودية التي كانت ما بين بيت المقدس وبيت لحم والخليل، إضافة إلى التلال المحيطة ببيت المقدس، والتي اشتهرت باسم المحاصيل المزروعة فيها أمثال تل الغول وهو التل الذي يطل حاليًا على الطريق المؤدي إلى نابلس.
أما عن الإنتاج الزراعي في بيت المقدس فيشير المؤلف إلى أشجار الزيتون والكروم والتين والقطن والشعير وقصب السكر وغيرها من المحاصيل.
أما عن الصناعة فيشير المؤلف إلى ارتباط كثير من الصناعات في المدينة بحياة المماليك وطبيعتهم العسكرية، إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى اهتمام المماليك بالنشاط العمراني حيث أصبحت مدينة القدس مركزًا للعمالة لتنفيذ العديد من الأعمال العمرانية في المدينة (تحصينات – مدارس – وأسبلة وحمامات … الخ) إضافة إلى وجود العديد من المحاجر في بيت المقدس، والتي يستخرج منها أندر الحجارة.
إلى جانب ذلك يشير المؤلف إلى اشتغال سكان بيت المقدس بصناعة عصر واستخراج زيت الزيتون، واستخدامه في صناعة الصابون وصناعة الشمع كما عرفت بيت المقدس الصناعات الخفيفة المرتبطة بمواسم الحج المسيحية، ومن هذه الصناعات الحفر على الخشب كما عرفوا صناعات المشغولات الفضية وصناعة المنسوجات والزجاج و المشغولات الذهبية وصناعة السكر من القصب.
المحور الثالث: التجارة والأسواق
أما في المحور الثالث فيشير المؤلف إلى وجود التفرقة بين عصر المماليك البحرية وعصر الجراكسة وذلك في المحور الثالث حيث يقرر أنه في فترة المماليك البحرية شهدت القدس نشاطًا عمرانيًا كبيرًا، والذي تمثل في بناء كثير من المدارس والزوايا وغيرها حيث كانت الأوقاف موردًا اقتصاديًا هام لهذه المدينة، إضافة إلى قطع الأحجار من المحاجر والأحوال الزراعية كانت حافزًا لازدهار التجارة، إلى جانب استتباب الأمن ووجود سلاطين أقوياء أمثال الظاهر بيبرس وقلاوون كان له أكبر الأثر في استقرار البلاد.
على عكس من ذلك يشير المؤلف إلى عصر سلاطين المماليك الجراكسة حيث سوء الحالة الاقتصادية، والتي أثرت على أحوال التجارة في بيت المقدس، إضافة إلى فرض كثير من الإتاوات والضرائب على أصحاب الحرف والصنائع والتجارة مع انتشار الأوبئة والمجاعات والتي كان لها الفضل في ارتفاع الكثير من الأسعار في كثير من المواد الغذائية والسلع الأخرى وإن كانت فترة عهد السلطان المؤيد شيخ والسلطان برسباي وجهودهما في تدعيم النظام الأمني والنقدي والمعاملات أدى إلى تحسن ملحوظ في شتى النواحي الاقتصادية.
أما عن أهم المتاجر التي اشتغل بها المقادسة فتتمثل في تجارة الحاصلات الزراعية والمواد اللازمة للعمارة وفي الأعشاب النباتية والعقاقير الطبية… الخ.
المحور الرابع: الحج ودوره في الحياة الاقتصادية
أما في المحور الرابع فيشير المؤلف إلى دور الحج إلى بيت المقدس في الحياة الاقتصادية، والذي كان يشكل موردًا هامًا من الموارد المالية للمدينة، وذلك نظير ما كان يتم تحصيله من رسوم وإتاوات أو مقابل خدمات أو عن طريق ما كان يتم من معاملات تجارية في ذلك الموسم أو من الأسواق الموسمية التي كانت تصحب ركب الحجاج… الخ.
المحور الخامس: الأوقاف الاقتصادية وبيت المقدس
أما في المحور الخامس فيشير المؤلف إلى العديد من الأزمات التي تعرضت لها مدينة بيت المقدس خاصة في عهد المماليك الجراكسة، والتي من بين أهم أسبابها النظام السياسي نفسه الذي قامت عليه دولة المماليك عامة وفي مدينة بيت المقدس خاصة حيث كان هذا النظام إقطاعيًا بالدرجة الأولى، وهذا النظام تميز بسمة واضحة وهي التغيير الدائم لأصحاب الإقطاعات؛ لذلك جعل كل منهم شغله الشاغل جمع ما يستطيع من ثروة دون اهتمام بوسائل زيادة الإنتاج، أو تحسين الأرض المنتجة، وكانت نتيجة ذلك هو الاستنزاف الدائم للأرض إلى جانب عدم رعاية الفلاحين، إضافة إلى انعدام الأمن وضعف سلاطين المماليك في أواخر أيامهم مع زيف في النقود المتداولة بين الناس، إضافة إلى اضطراب الدخل الزراعي في مصر وقلة الموارد المالية مع استنزاف خزانة الدولة في كثير من الحروب والفتن الداخلية والخارجية، إضافة إلى كثرة الأعباء المالية التي تفرض على نواب القدس لتقديمها للسلاطين أو نوابهم، أو بسبب سوء الأحوال الاقتصادية في البلاد نفسها مما يجعل النواب يفرضون على بعض الوظائف مثل الحسبة جباية تلك الأموال من أصحاب الحرف والمواطنين مما يؤثر على ارتفاع أسعار السلع، واختفاء كثير منها خاصة أيضًا مع انتشار الأوبئة وقلة سقوط الأمطار.
الفصل الخامس: الحياة اليومية في بيت المقدس
أما في هذا الفصل فيشير المؤلف إلى كثرة المنشآت الاجتماعية في بيت المقدس وتنوعها سواء منها ما هو خاص بأهل المدينة من الأسبلة أو الحمامات أو البيمارستانات، ويقصد بها المستشفى في العصر الحديث، والتي حظيت بعناية فائقة من جانب سلاطين المماليك، إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى حياة المرأة ومكانتها في المجتمع فيشير إلى احترام المرأة وتقديرها من جانب سلاطين المماليك سواء أكانت مسيحيات أو يهوديات أم مسلمات، إضافة إلى نظرة الرجل لها على أساس أنها معاونة له في عمله، وشريكة له، كما سمح لها أن تكون لها ملكيتها الخاصة، إضافة إلى دورها البارز في الحياة العائلية واليومية كان لها دور بارز في الحياة العلمية والدينية.
إضافة إلى ذلك استطاع سلاطين المماليك عدم التفريق بين المؤسسات الدينية المختلفة، وكفلوا حرية العبادة ورعاية المقدسات والمؤسسات الدينية، إضافة إلى كثرة الأوقاف المحبوسة على المؤسسات الدينية والخيرية المختلفة.
وفي النهاية يمكن القول: إن أهم ميزة حققها سلاطين المماليك من خلال سياستهم الدينية هو تحقيق الرواج العلمي والاقتصادي والسياسي والديني لمدينة بيت المقدس، إلى جانب استطاعتهم خلق نوع من الوفاق والتعايش السلمي بين كل من المسيحيين واليهود والمسلمين، مع احترامهم لحرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية وحمايتهم للمقدسات الدينية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دفتر الزوار