السبت، 22 فبراير 2014

مقال للصحفى والاعلامى محسن هاشم /الترجمة والفلسفة في العالم العربي

أعتزم في هذه المقال الدعوة إلى إعمال الفكر في هذه الحركة النشطة المحمودة التي تشهدها بعض المؤسسات وبعض بيوت الحكمة، والتي تتنافس فيها أقطار عربية غير قليلة لتوفير النصوص الفلسفية الكبرى للمشتغلين بالفلسفة في عالمنا العربي. ليس من الضروري بطبيعة الحال أن نؤكد على أهمية هذا النشاط الثقافي الهام الذي يوفر للمترجمين الشروط المادية الضرورية التي بدونها لن تقوم للترجمة قائمة. لذلك فنحن لسنا في حاجة إلى أن ننبه أننا لا نتوخى هنا التقليل من أهمية حركة الترجمة هاته. إلا أننا نرى أن ذلك لا يعفينا من مواكبة التفكير في حدود هذه الحركة لإثبات مالها وما عليها. فلا مفر لترجمة النصوص الفلسفية من إبراز الفلسفة الكامنة وراء العملية، وتحديد المفهوم الثانوي عن الترجمة وعن الفلسفة في الوقت ذاته. لا بد في البداية أن نشير أن هذه الحركة جاءت لتصحح «أخطاء» مرحلة سابقة قد يرى فيها البعض أنها لم تكن إلا مرحلة طبعتها عقلية «البريكولاج»، واقتصر فيها المترجمون على تناول ما «تحت أيديهم» من مؤلفات، وتوظيف ما يستعملونه من لغات، واستخدام ما يتوفرون عليه من إمكانيات. لذا فما يبدو منطلقات أساسية لحركة الترجمة البديلة هاته هو إسنادها الترجمة الى أهل الاختصاص، وحرصها الشديد على ألا تتم الترجمة الا عن اللغة الأم، وأن تبدأ أساسا بأمهات الكتب وعيون المصادر. والظاهر أن ما «تراكم» حتى الآن لخير دليل على التزام الساهرين على هذه الترجمات بكل تلك المبادئ. ويكفي على سبيل المثال أن نلقي نظرة سريعة على منجزات «المنظمة العربية للترجمة» في مجال الفلسفة حتى نتأكد من صحة ما أشرنا اليه. فقد استطاعت تلك المنظمة أن توفر للقارئ العربي عناوين أساسية في تاريخ الفلسفة على اختلاف مدارسه واتجاهاته. ولكن، هل تكمن «مهمة المترجم» في أن يوفر للقارئ أمهات النصوص؟ ولنقتصر هنا على مجال الفلسفة ما دمنا بصدد الحديث عنه بالأساس، هل تكمن مهمة المترجم في أن يضع بين يدي المشتغلين يالفلسفة أمهات الكتب؟ وهل يمكن لترجمة النصوص الفلسفية أن تتم بمعزل عن مخاض فلسفي؟ أشرنا منذ قليل الى محاولات الترجمة التي كانت تتم فيما سبق، الظاهر أنه مهما قلنا عما كان يشوب تلك المحاولات من عيوب الا أننا لا نستطيع، على رغم ذلك، أن ننفي أنها كانت تتم في خضم مخاض فلسفي، فلا اختيار النصوص ولا انتقاء المصطلحات، كل ذلك لم يكن ليتم بمعزل عن جدال ثقافي عام. بعبارة موجزة فان الترجمة لم تكن آنئذ لتتم بعيدا عن الانشغال الفلسفي. كنا ننقل في الأغلب عن غير اللغات الأم، عن لغات وسيطة كما يقال، الا أن نقلنا ذاك كان لا ينفصل عن مخاض فلسفي أو همّ فكري على الأقل. كانت الترجمات على علاتها تواكب جدالا ثقافيا عاما. ترجمنا بعض نصوص ديكارت، الا أن ذلك كان يدخل في سياق انشغال ثقافي لم يكن ينحصر في مجال الفلسفة وانما كان يطال ميدان الأدب ومنهج دراسته. نقلنا بعض نصوص ماركس وفرويد عن الفرنسية والانجليزية، الا أننا تجادلنا كثيرا وترددنا طويلا في توظيف كلمات وفي ترجمة مفهومات ونقل مصطلحات. لنذكر على سبيل المثال ترددنا في استعمال ألفاظ مثل التجاوز والتشيؤ والاغتراب والاستلاب والوعي الزائف بالنسبة لبعض نصوص هيجل وماركس، أو كلمات الكبت والدافع والنكوص والانكار بالنسبة لبعض نصوص فرويد.. لا نلمس اليوم نوعا من هذا الجدال عند من ينقلون نصوص هيجل أو هوسرل أوهايدغر. أو لنقل على الأصح ان نقل هؤلاء الى اللغة العربية لا يتم في سياق استثمار فكري لمتونهم. ربما لا يرجع الأمر هنا فحسب الى الطابع المؤسسي الذي أخذ يسم الترجمة في عالمنا العربي، وإنما الى مفهوم الترجمة ذاته الذي تفترضه هذه الممارسة. ذلك أن الترجمة تطرح هنا بمعزل عن مخاض فكري، وتفهم أساسا على أنها نوع من التهيؤ للنصوص الكبرى كي تغدو متيسرة للقارئ العربي الذي ينوي الاشتغال بالفلسفة والذي يعتزم إعمال الفكر في تراثها. الترجمة هنا عملية تمهيدية. إنها مثل التحقيق تسعى لتوفير النص لمن يعتزم إعمال الفكر فيه. وهي تسعى أن تضع «بين يدي» القارئ العربي أمهات النصوص. فهي اذن لحظة سابقة ممهدة لكل تفلسف. ما تهدف اليه هو إيجاد النص في لغة عربية، حتى وان تطلب الأمر أن يقبع في قاعة انتظار إلى أن يحين وقت استخدامه، والاشتغال به وعليه. لكن ماذا لو كانت نصف عملية التفلسف تكمن في فعل الترجمة ذاته؟ اذا كانت الفلسفة حوارا فهي بالأولى حوار بين نصوص وبين لغات. بهذا المعنى لا يمكن الفصل بين لحظتين : لحظة إعداد النص وترجمته، ثم لحظة استخدامه والتفكير فيه. اذا كان معظم الفلاسفة المعاصرين مترجمين، فليس ذلك سعيا منهم الى توفير نصوص وانما وعيا منهم أن ترجمة النصوص الفلسفية واعادة ترجمتها من صميم الممارسة الفلسفية. لا أعني بذلك فحسب أن هايدغر وفوكو وآلتوسير ولاكان ودريدا وريكور، لا أعني فحسب أن كل واحد من هؤلاء يرتبط اسمه بمصنف نقله الى لغته، وانما بأن كلا منهم لم يفتأ يعدل ترجمات النصوص التي كان يستثمرها. ان كلا من هؤلاء كان يعيد النظر في ترجمة النص عندما كان يعيد قراءته. أو لنقل بالأولى انه كان يعيد قراءته بإعادة ترجمته. لقد اعتقدت المؤسسات التي أوكلت الى نفسها السهر على الترجمة أن قضية الفلسفة عندنا هي غياب النصوص الكبرى، وأن ترجمة النصوص وتوفيرها بلغة عربية تنقل عن اللغة الأم هو السبيل الأضمن لحل تلك المعضلة. بيد أن ترجمة أمهات الكتب الفلسفية لا تكمن في اعدادها كي تكون موضع تفكير، انها ليست تحقيقا لكتب واقتراحا لمصطلحات. بل هي إعمال فكر واعادة تأويل فإعادة ترجمة. ثم ان مسألة ترجمة النصوص الفلسفية لا تقتصرعلى ندرة ما نقل إلى العربية من الأمهات، وإنما تتعدى ذلك إلى ما عبّر عنه أحد مترجمينا الكبار عندما اشتكى بـ«أن ترجماته ولدت ميتة». لقد سبق لبعض مترجمينا أن نقلوا نصوصا أساسية في مجال الفلسفة، وهذا الذي أومأنا اليه كان ينقل عن اللغات الأم، الا أن تلك النصوص لم تلق استجابة في سوق التبادل المعرفي: فلم تدخل في شبكات فكرية وعلائق أخرى، ولم تثر انتقادا ولم تُستثمر ولم توظّف. وليست قليلة الأمثلة التي تؤكد ذلك. ويكفي أن نذكر ترجمات بعض مؤلفات فرويد على يد صفوان وزيور وسامي علي، وترجمة بعض مؤلفات لوك وروسو، إلى غير ذلك من الترجمات المهمة كرسالة سبينوزا ورسالة فتغنشتاين وحفريات فوكو..وهي ترجمات أصبح من المتعذر حتى الحصول عليها شعورا من ناشريها ربما بلا جدوى إعادة النشر. على هذا النحو فان ترجمة النصوص الفلسفية لا يمكن الا أن تتلبس الممارسة الفلسفية ذاتها، ولن تعود الترجمة مجرد فعل في تلك النصوص، وإنما تغدو تفاعلا معها، لن تعود تفكيرا في تلك النصوص، وإنما تفكير بها. لعل هذا هو ما يفسر كون الترجمة الفلسفية تظل عملية لامتناهية حتى داخل اللغة الواحدة. فما دام النص الفلسفي موضع فكر فهو يترجم وتعاد ترجمته. ويكفي أن نذكر أقرب مثال إلينا، وهو نقل النصوص الألمانية إلى اللغة الفرنسية. تتمخض عن ذلك نتيجتان: أولاهما أن الترجمة ليست مسألة مؤسسة فحسب. لا يمكن للترجمة، وترجمة الأمهات الفلسفية أن تسند فقط إلى منظمات وقطاعات وزارية و«بيوت حكمة» تراكم النصوص الكبرى في رفوف المكتبات. «بيوت الحكمة» هنا هي، أولا وقبل كل شيء، الممارسة اليومية لمن يشتغل بالفلسفة ومن يشغل باله بها. الترجمة الفلسفية، مثل الفلسفة، همّ فكري ومعاناة من «يفلح» النصوص ويعشق اللغة ويرعى صقلها وصفاءها. ربما لا يمكنها أن تستغني ماديا عن المؤسسات والمنظمات، الا أنها لا يمكن البتة أن تتم خارج «مختبرات» الفكر، وبعيدا عن قاعات الدرس وفضاءات «الانتاج» الفلسفي. النتيجة الثانية تتجاوز مسألة الترجمة كي تطال قضية الفلسفة ذاتها وشكل ممارستها في عالمنا العربي. فما دامت علائقنا بالنصوص الكبرى علائق لا تتعدى الفضول المعرفي، فإننا سنظل نتوهم أن تملّك تلك النصوص يتحقق بمجرد نقلها إلى لغتنا دون بذل جهد متواصل لانفصالنا عنها، وإذكاء حدة التوتر بيننا وبينها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دفتر الزوار